الشيخ عبيد الجابري : هذا حديث عظيم، كبير القدر، يحوي فوائد جمة.

12:26 م

هذا حديث عظيم، كبير القدر، يحوي فوائد جمة.


قال الإمام البخاري – رحمه الله- في صحيحه في “كتاب الرقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها” قال: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف وهو حليف لبني عامر بن لؤي كان شهد بدرا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أخبره أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه فوافته صلاة الصبح مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فلما انصرف تعرضوا له فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حين رآهم وقال: أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم) وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق.
  الشيخ: هذا حديث عظيم، كبير القدر، يحوي فوائد جمة.
الفائدة الأولى: أن أهل البحرين – وكانت تطلق على الأحساء وما يعرف اليوم بالبحرين وغيرها- لم تكن من أهل الإسلام، بل كانوا من النصارى وفيها من اليهود من فيها، فصالحهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- على الجزية، وهذه سنة سنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فالآبون عن الإسلام، وعن الدخول في الإسلام قسمان:
– قسم يرضون بفرض الجزية عليهم، مع بقائهم على ما هم عليه، فيقرهم الإمام القائم على ذلك ويأخذ الجزية منهم.
– وقسم يأبون الدخول في الإسلام ويأبون الجزية، فيقاتلهم الإمام القائم.
– وثمة قسم ثالث، وهو من بينهم وبين إمام المسلمين مواثيق وعهود، فهؤلاء يبقون على ما هم عليه وإن لم يدفعوا جزية، والقاعدة العامة، أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، إذا ترجح، وهذا مرده إلى شرع الله -عز وجل-، إلى محمد – صلى الله عليه وسلم- في حياته، إلى شخصه، وإلى سنته بعد مماته، وبهذا يعلم أنه ليس لكل أحد أن يرفع لواء حرب على من ليس مسلما من يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي أو غيرهما، بل هذا لحكام المسلمين، هم الذين ينظرون ومن معهم من أهل العلم والفضل، أهل الفقه والرسوخ في السنة ويقررون، وبقية المسلمين تبع لهم.
ثانيا: يجوز لذوي الحاجات، من فقراء ومساكين، أن يطلبوا من بيت مال المسلمين عن طريق حاكمهم، والحاكم القائم يعطي مما هو في سعته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا أعطاهم الإمام قبلوا، وإن لم يعطهم لم يسخطوا، وقد ذم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وتوعد بوعد الله من كان مبايعته للحاكم الإمام المسلم من أجل الدنيا، إن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط، وذكره – صلى الله عليه وسلم- في ” ثلاثة لا يكلمهم الله , ولا ينظر إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم” وأس الخوارج، وذو الخويصرة، الذي ثار في وجه أكرم الخلق – صلى الله عليه وسلم- ثار في وجه محمد – صلى الله عليه وسلم- ثار من أجل عرض الدنيا، “اتق الله يا محمد” هكذا قال، “والله إنها قسمة ما أريد بها وجه الله” فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “ويحك” أو قال ” ويلك، من يطع الله إن عصيته “.
أما الأنصار – رضي الله عنهم- وقريش، أعني الأنصار والمهاجرين من قريش، لما قسم النبي – صلى الله عليه وسلم- القسمة وأعطى بعض صناديد العرب، ومن أجل ذلك اعترض عليه هذا الخبيث اللئيم، وما هو من أهل الإيمان في شيء، بل هو منافق، وإن كان من أهل الإيمان ظاهرا، تغضبت أول الأمر فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- “إنما أتألفهم” فسكنوا – رضي الله عنهم- لعلمهم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عمل بأمر الله، وعمل لمصلحة الإسلام وأهله، ومن هنا تعلمون – بارك الله فيكم- أن أهل الثورات الذين تسمعون بهم، ما بين الفينة والفينة، لا يثورون من أجل شرع الله، ومن أجل تحكيم كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- وإنما من أجل الدنيا والمناصب، فلو كانت تحكمهم شريعة الله، وتحكمهم سنة محمد – صلى الله عليه وسلم – لانشغلوا بأنفسهم وسعوا في مناكب الأرض وطلبوا القوت بما أتاهم الله – سبحانه وتعالى – من وسائل التكسب.
وعلى سبيل المثال معارضوا سوريا ماذا صنعت ثورتهم؟! لم يثوروا على بشار الملعون ابن الملعون، بشار بن حافظ الأسد الكافر بن الكافر، من أجل جهاد كافر ومسلم، أو جهاد بين كافر ومسلم، لا، ليس من أجل العقيدة، فلو كانت تحكمهم سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لتركوه وشأنه.
فالآن انظروا سوريا – فرج الله عنها ونفس كربتها- ما بين قتيل وشريد، حتى أنهم وصل بهم الأمر أو ببعضهم إلى أن يأكلوا القطط خارج سوريا، وقد كانت سوريا – فرج الله عنها- بلد خيرات وأمن وأمان، خيراتها واسعة، يرتادها من يرتادها من المسلمين وغيرهم للنيل من خيراتها، بأرخص الأسعار سكنا وأكلا وغير ذلك والآن أين هي؟ دمرت.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإمام إذا تعرض له من يتعرض، أو يأتيه من يأتي للنيل مما عنده أن يبشرهم بالخير، ويدخل السرور عليهم، ويثلج صدورهم بالكلمات الطيبة، ويعطي بقدر مكنته كما قدمنا، لا يجب على الإمام أن يوظف الناس كلهم، ولا أن ينفق على الناس كلهم، هذا حسب قدرته، ثم في عصر اليوم ليست المسألة مقصورة على الأعطيات من نقود وطعام وغيرها، واجبات الحاكم كثيرة، شؤون صحية، شؤون اجتماعية، شؤون خدمية، إنفاق على جيش لسد الثغور وغير ذلك.
فالآن يعاني المسلمون حكاما ومحكومين – إلا من رحم الله- خوارج هذا العصر، داعش ومن لف لفها، فهي تكلف الحكام ما لا يعلمه إلا الله من الجهد في المال، وتوفير العساكر ذوي القدرات على صد العدو، وهذا البلد خصوصا هو المستهدف لأنه قبلة المسلمين، ومنه انطلقت رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم- فمن ظفر بأهله – ونسأل الله أن يصدهم ويجعل كيدهم في نحورهم- دانت له جميع أقطار المسلمين، فلا تستغربوا يا أهل الإسلام أن يستهدف هذا البلد وأهله، وذنبه أنه بلد التوحيد والسنة، فوالله وبالله وتالله لا يوجد بلد توحيد وسنة حكاما ومحكومين إلا أهل هذا البلد، نعم؛ في بقية الأقطار الإسلامية كثير – ولله الحمد – من أهل التوحيد والسنة، أما التأسيس فلا، وقد بسطت لكم من خلال عرضنا ونقدنا لقاعدة المعذرة التعاون أن في كثير من بلاد المسلمين عبادة القبور والتقرب لها والنذر لها غير ذلك، هذا البلد هو بلد التوحيد والسنة بحكامه وأهله، فتفطنوا يا أهل الإسلام من المواطنين في هذا البلد ومن الوافدين علينا، وأذكر لكم مثالا وقد ذكرته كثيرا، أنه لما حدث غزو صدام البعثي الملعون الكافر الملحد للكويت، أهل السنة في الهند وباكستان وغيرهما يدعون لنصر حكومة المملكة العربية السعودية، وينشرون ما يقدرون عليه من كتب ونشرات مطويات، لماذا؟ لأن هذا البلد هو بلد التوحيد والسنة.
وفيه من الفوائد تحذير النبي – صلى الله عليه وسلم- من الدنيا، ولهذا قال: “فوالله ما الفقر أخشى عليكم” نحن نلمس – فيما زرناه من بلاد المسلمين من شبه الجزيرة وغيرها- أن أكثر من يعتاد المساجد، ويتحلق حول المحاضرات والدروس، وتمتلئ بهم مساجدهم، أهل قلة ذات اليد، ليس عندهم شيء يشغلهم، هذا أولا أول تحذير، فكأن سائلا سأل: لماذا يا رسول الله؟ قال: “أخشى أن تبسط عليكم كما بسطت على من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم” في رواية، وهذه الرواية التي بين أيدينا “ألهتهم”.
أقول: ما يؤتاه الناس من متاع الدنيا قسمان، وأعني به الدراهم والدنانير، قسمان:
– قسم: في الجيب، ينفق منه أهله في وجوه الخير، سلطهم الله عليها فأهلكوها في الحق، فهؤلاء لا تضرهم الدنيا.
– القسم الثاني: من تغلغلت الدنيا في قلوبهم، واستحوذت عليهم، وشغلتهم عن الآخرة، فلم يعودوا يعرفون معروفا، ولم يعودوا ينكرون منكرا إلا ما أوتوه من الدنيا، واسمعوا؛ قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: “إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد آتاه الله علما ومالا فهو ينفق منه آناء الليل وأناء النهار ويعرف لله فيه حقه، ويتقي فيه ربه، فهذا بأفضل المنازل، وعبد آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو صادق النية، يقول: لو كان لي مثل مال فلان لعملت بعمل فلان، أو قال: لو كان لي مال لعملت بعمل فلان، قال: فأجرهما سواء”.
فالأول: غني شاكر ينفق مما آتاه الله، يعرف في ماله حق الله، وحق عباده فرفعه ذلك إلى أعلى المنازل.
والثاني: فقير صابر، نيته صادقه فبلغه الله- سبحانه وتعالى- مبلغ ذاك بنيته الصادقة, وبهذا يعلم أن النية الصادقة يبلغ الله بها صاحبها مبلغ العامل , وفي هذا أحاديث كثيرة؛ قال :”وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير الحق, لا يتق فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقه فذلك بأخبث المنازل، وعبد لم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول: لو أن لي مالا لفعلت مثل فلان”، يعني لماذا؟ ماذا يريد؟ أن يتخبط و يرتع في المال غير عابىء بحق لله ولا لعباده, فبلغ بنيته الخبيثة مرتبة ذاك الخبيث، لعبة الشيطان, ثم الناظر في مؤثرة الدنيا والانشغال بها، ماذا يرى من أحوال الناس؟ كم من رحم موصولة فقطعت! وكم من ظلم كان من هذا المؤثر على الآخرين فتعدى على أموالهم بما قدر عليه! وكم من صداقه تحولت إلى عداوة! وكم من محبة استحالت بغضا! وكم من نفس أزهقت من أجل الدنيا لأتفه الأسباب! فاعتبروا يا أولي الأبصار، وجاهدوا أنفسكم على الزهد في الدنيا، وأن لا تتجاوز ما أحله الله لك أيها الناصح لنفسه الحازم في أمره.
فكون العبد يسعى في تحصيل ما طاب له من المطاعم و المشارب و المناكح على الوجه الصحيح, وإعفاف نفسه وأهل بيته فلا ضير عليه، و لا حرج عليه؛ ليكسب من الدنيا ما شاء من وجه حله وإنفاقه في محاب الله ومراضيه من النفقة الواجبة وصلة الرحم والبر وجميع أوجه الخير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


المصدر : اللقاء السادس والعشرون من لقاءات الجمعة- فضيلة الشيخ عبيد الجابري

مواضيع ذات صلة

التالي
« السابق
السابق
التالي »