فقد اطلعت على الحواشي التي وضعها -يقصد في تحقيقه لفتح المجيد- الأستاذ العلامة الشيخ محمد حامد الفقي... فألفيتها كثيرة الفوائد قد أجاد فيها وأفاد.
وقال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله: عندما رأيته يدرس في مكة عند باب علي قلت هذا ضالتي وكانت حلقته أول حلقة أجلس فيها في الحرم وكان ذلك عام 1367هـ.
وقال الشيخ أبو تراب الظاهري رحمه الله:
كان سلفيا، سلفيا، سلفيا، شديدا يحرص على نشر التوحيد ويغار عليه وما رأيت أحدا مثله في الغيرة على التوحيد ولقد سكنت عنده في مصر خمس سنوات وكان متكفلا بي في كل شئ حيث كنت أشارك معه في التخريج والتحقيق ولو قلت أن عيني لم تر مثله وأذني لم تسمع بمثله في حماية التوحيد لا أكون مبالغا كان إذا صعد المنبر لخطبة الجمعة يقول بأعلى صوته: كفرت بالطاغوت.. كفرت بالبدوي.. كفرت بكذا... ولقد كان يجتمع في حلقته في المسجد الحرام خلق كثير يجتمعون حوله ما بين قاعد وقائم.
وأما قصته تلك فيحكيها الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله وهو أحد تلاميذه فيقول:
"وسألت الشيخ حامد: يا شيخ كيف صرت موحّدا على منهج السلف وأنت درست بالأزهر؟
فقال الشيخ: درست بالأزهر ودرست عقيدة المتكلمين التي يدرسونها وأخذت الشهادة العالمية وذهبت إلى بلدي كي يفرحوا بنجاحي وفي الطريق مررت على فلاح يفلح الأرض ولما وصلت عنده قال: يا ولدي اجلس على الدكة وهو يشتغل ووجدت بجانبي على طرف الدكة كتابا فأخذت الكتاب ونظرت عليه فإذا هو كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" لابن القيم، فأخذت الكتاب أتسلى به ولما رآني أخذته وبدأت أقرأ فيه تأخر عني قدرا من الوقت الذي آخذ فيه فكرة عن الكتاب وبعد فترة وهو يعمل في حقله وأنا أقرأ في الكتاب جاء الفلاح وقال: السلام عليك يا ولدي كيف حالك؟ ومن أين جئت؟ فأجبته على سؤاله، فقال لي: والله إنت شاطر لأنك تدرجت في طلب العلم حتى توصلت إلى هذه المرحلة ولكن يا ولدي أنا عندي وصية، فقلت له: وما هي؟
قال الفلاح: أنت عندك شهادة تعيشك في كل الدنيا في أوروبا وأمريكا ولكن ما علمتك الشئ الذي يجب أن تتعلمه أولا..
قلت: وما هو؟
قال: ما علمتك التوحيد.
قلت: وما هو التوحيد؟
قال: توحيد السلف.
قلت: وما هو توحيد السلف؟
قال: إنه يوجد في هذه الكتب كتاب السنة للإمام أحمد وكتاب التوحيد لابن خزيمة وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري وكتاب اعتقاد أهل السنة للحافظ، -وذكر الفلاح كتب التوحيد التي للمتأخرين والمتقدمين، ثم ذكر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم- وقال له: أنا أدلك على هذه الكتب إذا وصلت إلى قريتك ورأوك وفرحوا بنجاحك لا تتأخر ارجع رأسا على القاهرة، ادخل دار الكتب المصرية ستجد كل هذه الكتب التي ذكرتها كلها فيها ولكنها مكدّس عليها الغبار وأنا أريدك أن تنفض ما عليها من الغبار وتنشرها.
لم ينس الشيخ حامد هذه الوصية فعاد إلى القاهرة مسرعا وعكف على كتب السلف يخرجها من غياهب أدراج المكتبات ويقوم على خدمتها. اهـ
رحم الله الشيخ رحمة واسعة وجعل ما قدّمه في موازين حسناته، اللهم آمين.
سماحة الشيخ
محمد حامد الفقى رحمه الله تعالى مؤسس أنصار السنة
كثير من الشخصيات الإسلامية التي لعبت دورًا هامًا في نشر المفاهيم الصحيحة للكتاب والسنة مجهولة لكثيرة من الناس، وفي هذه العجالة نلتقي مع الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله-.
مولده ونشأته:
ولد الشيخ محمد حامد الفقي بقرية نكلا العنب في سنة 1310هـ الموافق 1892م بمركز شبراخيت مديرية البحيرة.
نشأ في كنف والدين كريمين فوالده الشيخ أحمد عبده الفقي تلقى تعليمه بالأزهر ولكنه لم يكمله لظروف اضطرته لذلك.
أما والدته فقد كانت تحفظ القرآن وتجيد القراءة والكتابة، وبين هذين الوالدين نما وترعرع وحفظ القرن وسنّه وقتذاك اثني عشر عامًا.
ولقد كان والده أثناء تحفيظه القرآن يوضح له معاني الكلمات الغريبة ويعلمه مبادئ الفقه حتى إذا أتَّم حفظ القرآن كان ملمًا إلمامًا خفيفًا بعلومه ومهيأ في الوقت ذاته لتلقي العلوم بالأزهر على الطريقة التي كانت متبعة وقتذاك.
طلبه العلم:
كان والده قد قسم أولاده الكبار على المذاهب الأربعة المشهورة ليدرس كل واحد منهم مذهبًا، فجعل الابن الأكبر مالكيًا، وجعل الثاني حنفيًا، وجعل الثالث شافعيًا، وجعل الرابع وهو الشيخ محمد حامد الفقي حنبليًا.
ودرس كل من الأبناء الثلاثة ما قد حُدد من قبل الوالد ما عدا الابن الرابع فلم يوفق لدراسة ما حدده أبوه فقُبل بالأزهر حنفيًا.
بدأ محمد حامد الفقي دراسته بالأزهر في عام 1322هـ - 1904م وكان الطلبة الصغار وقتذاك يبدؤون دراستهم في الأزهر بعلمين هما: علم الفقه، وعلم النحو.
وكانت الدراسة المقررة كتابًا لا سنوات، فيبدأ الطالب الحنفي في الفقه بدراسة مراقي الفلاح.
ويبدأ في النحو بكتاب الكفراوي وهذان الكتابان هما السنة الأولى الدراسية، ولا ينتقل منها الطالب حتى يتقن فهم الكتابين.
كان آخر كتاب في النحو هو الأشموني أما الفقه، فحسب المذاهب ففي الحنابلة الدليل، وعند الشافعية التحرير، وعند الحنفية الهداية، وعند المالكية الخرشي، أما بقية العلوم الأخرى كالمنطق وعلم الكلام والبلاغة وأصول الفقه فكان الطالب لا يبدأ في شيء منها إلا بعد ثلاث سنوات.
بدأ الشيخ محمد حامد الفقي دراسته في النحو بكتاب الكفراوي وفي الفقه بكتاب مراقي الفلاح وفي سنته الثانية درس كتابي الشيخ خالد في النحو وكتاب منلا مسكين في الفقه ثم بدأ في العلوم الإضافية بالسنة الثالثة، فدرس علم المنطق وفي الرابعة درس علم التوحيد ثم درس في الخامسة مع النحو والفقه علم الصرف وفي السادسة درس علوم البلاغة وفي هذه السنة وهي سنة 1910م بدأ دراسة الحديث والتفسير وكانت سنه وقتذاك ثمانية عشر عاما فتفتح بصره وبصيرته بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسك بسنته لفظًا وروحًا.
بدايات دعوة الشيخ لنشر السنة الصحيحة:
لما أمعن الشيخ في دراسة الحديث على الوجه الصحيح ومطالعة كتب السلف الصحيح والأئمة الكبار أمثال ابن تيمية وابن القيم وابن حجر والإمام أحمد بن حنبل والشاطبي وغيرهم، فدعا إلى التمسك بسنة الرسول الصحيحة والبعد عن البدع ومحدثات الأمور وأن ما حدث لأمة الإسلام بسبب بعدها عن السنة الصحيحة وانتشار البدع والخرافات والمخالفات.
فالتف حوله نفر من إخوانه وزملائه وأحبابه واتخذوه شيخًا لهم وكان سنه عندها ثمانية عشرة عامًا سنة 1910م بعد أن أمضى ست سنوات من دراسته بالأزهر، وهذا دلالة على نبوغ الشيخ المبكر.
وظل يدعو بحماسة من عام 1910م حتى أنه قبل أن يتخرج في الأزهر الشريف عام 1917م دعا زملائه أن يشاركوه ويساعدوه في نشر الدعوة للسنة الصحيحة والتحذير من البدع.
ولكنهم أجابوه: بأن الأمر صعب وأن الناس سوف يرفضون ذلك فأجابهم: أنها دعوة السنة والحق والله ناصرها لا محالة، فلم يجيبوه بشيء.
فأخذ على عاتقه نشر الدعوة وحده والله معه، فتخرج عام 1917 بعد أن نال الشهادة العالمية من الأزهر وهو مستمر في الدعوة وكان عمره عندها 25 سنة.
ثم انقطع منذ تخرجه إلى خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحدثت ثورة 1919م وكان له موقف فيها بأن خروج الاحتلال لا يكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء متبرجات والرجال ولا تحرر فيها عقيدة الولاء والبراء لله ولرسوله، ولكنه بالرجوع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وترك ونبذ البدع وإنكاره لمبادئ الثورة "الدين لله والوطن للجميع". "وأن خلع حجاب المرأة من التخلف" وانتهت الثورة وظل على موقفه هذا.
وظل بعد ذلك يدعوا عدة أعوام حتى تهيئت الظروف وتم إشهارها ثمرة هذا المجهود وهو إنشاء جماعة أنصار السنة المحمدية التي هي ثمرة سنوات الدعوة من 1910م إلى 1926م عام إشهارها.
ثم إنشاء مجلة الهدي النبوي وصدر العدد الأول في 1937هـ.
أنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية في عام 1345هـ/ 1926م تقريبًا واتخذ لها دارًا بعابدين ولقد حاول كبار موظفي قصر عابدين بكل السبل صد الناس عن مقابلته والاستماع إليه حتى سخَّرُوا له من شرع في قتله ولكن صرخة الحق أصمَّت آذانهم وكلمة الله فلَّت جموعهم وانتصر الإيمان الحق على البدع والأباطيل. (مجلة الشبان المسلمين رجب 1371هـ).
تأسيس مجلة الهدي النبوي:
بعد أن أسس الشيخ رحمه الله جماعة أنصار السنة المحمدية وبعد أن يسر الله له قراءة كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم واستوعب ما فيها ووجد فيها ضالته أسس عام 1356هـ في مارس 1936م صدر العدد الأول من مجلة الهدي لتكون لسان حال جماعته والمعبرة عن عقيدتها والناطقة بمبادئها، وقد تولى رياسة تحريرها فكان من كتاب المجلة على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ أحمد محمد شاكر، الأستاذ محب الدين الخطيب، والشيخ محيي الدين عبد الحميد، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، (أو إمام للحرم المكي)، والشيخ أبو الوفاء محمد درويش، والشيخ صادق عرنوس، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والشيخ خليل هراس، كما كان من كتابها الشيخ محمود شلتوت.
أغراض المجلة:
وقد حدد الشيخ أغراض المجلة فقال في أول عدد صدر فيها:
"وإن من أول أغراض هذه المجلة أن تقدم ما تستطيعه من خدمة ونصح وإرشاد في الشؤون الدينية والأخلاقية، أخذت على نفسها موثقًا من الله أن تنصح فيما تقول وأن تتحرى الحق وأن لا تأخذ إلا ما ثبت بالدليل والحجة والبرهان الصحيح من كتاب الله تعالى وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم" اهـ.
جهاده:
يقول عنه الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "لقد ظل إمام التوحيد (في العالم الإسلامي) والدنا الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- أكثر من أربعين عامًا مجاهدًا في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب واعتاد النصر على الأحداث، وإرادة تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ به، إذ كان الخوف من الله آخذا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يُدهن في القول ولا يداجي ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدًا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقًا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا".
عاش رحمه الله للدعوة وحدها قبل أن يعيش لشيء آخر، عاش للجماعة قبل أن يعيش لبيته، كان في دعوته يمثل التطابق التام بين الداعي ودعوته، كان صبورًا جلدًا على الأحداث، نكب في اثنين من أبنائه الثلاث فما رأى الناس معه إلا ما يرون من مؤمن قوي أسلم لله قلبه كله(1).
ويقول الشيخ أبو الوفاء درويش: "كان يفسر آيات الكتاب العزيز فيتغلغل في أعماقها ويستخرج منها درر المعاني، ويشبعها بحثًا وفهمًا واستنباطاً، ويوضح ما فيها من الأسرار العميقة والإشارات الدقيقة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة.