أوَّلا: نصُّ الحديث: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَلَا السِّعْرُ فِي المَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»، رواه الخمسة إلَّا النسائي وصحَّحه ابن حبَّان(١). ثانيًا: سند الحديث: الحديث صحيحٌ على شرط مسلم، كما قال الحافظ في «التلخيص» قال: وصحَّحه ابن حبَّان(٢)، وقد ذكره الترمذي وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»(٣). ثالثًا: ترجمة راوي الحديث: هو خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، وأمُّه أمُّ سليمٍ بنت ملحان، جاءت به وهو ابن عشر سنين إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند قدومه مهاجرًا إلى المدينة، فقالت يا رسول الله: هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك، فقبله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكنَّاه «أبا حمزة»، وكان عليه الصلاة والسلام يداعبه ويمازحه بقوله: يا ذا الأذنين ... وبقي في خدمته عشر سنين، منتفعًا بمصاحبته وبدعائه له قائلًا: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ»(٤). وقد شهد أنسٌ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحديبية وعمرته، والحجَّ والفتح وحنينًا والطائف، وبعثه أبو بكرٍ رضي الله عنه ـ أثناءَ خلافته ـ إلى البحرين على السعاية، وتُوفِّي أنسٌ سنة (٩٣ﻫ ـ ٧١١م) بالبصرة، وكان آخرَ من تُوفِّي بها من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وله من العمر مائةٌ وثلاث سنين (١٠٣)(٥). وهو أحد المكثرين من رواية الحديث، وله ألفان ومائتان وستَّةٌ وثمانون حديثًا (٢٢٨٦)(٦). رابعًا: غريب الحديث: ـ «السعر»: لغةً التقدير(٧). «السعر» اصطلاحًا: هو أن يأمر من وَلِيَ أمْرَ المسلمين أمرًا بوضع ثمنٍ محدَّدٍ للسلع التي يراد بيعُها بحيث لا يظلم المالك ولا يرهق المشتري. ـ «المسعِّر»: أي يضع السعر بإرادته وحده سبحانه. ـ «القابض»: المقتر. ـ «الباسط»: الموسِّع. خامسًا: المعنى الإجمالي للحديث: يُطْلِق الإسلام ـ من خلال هذا الحديث ـ حرِّيَّةَ الأفراد للسوق، يبيعون سلعتهم المجلوبة والحاضرة، من غير ظلمٍ منهم، كيف شاءوا وفقًا لقانون العرض والطلب، فإذا ارتفع سعر السلع التي يراد بيعها ـ إمَّا لقلَّة الجَلَب أو كثرة الطلب ـ فإنَّ هذا الأمر موكولٌ إلى الله سبحانه يوسِّع ويضيِّق بإرادته ويرفع ويخفض بمشيئته. واعتبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم التدخُّل في حرِّيَّة الأفراد من غير ضرورةٍ ضربًا من الظلم، وأنَّ إلزامهم بتسعيرٍ معيَّنٍ وبقيمة بعينها إكراهٌ من غير وجه حقٍّ، وأنَّ منعهم ممَّا أباحه الله لهم حرامٌ، ولهذا أحبَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ نظرًا لخطورة المظالم في الدماء والأموال ـ أن يلقى الله تعالى بريئًا من مسؤوليتها، وبعيدًا من تبعيتها. سادسًا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث: يؤخذ من حديث أنسٍ رضي الله عنه الفوائد والأحكام التالية: ١ ـ فيه دليلٌ على أنَّ المُسَعِّر من أسماء الله تعالى، وأنها لا تنحصر في التسعة والتسعين المعروفة(٨)، وقد ورد في الحديث: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ ...»(٩). ٢ ـ استُفيد تحريم التسعير من كونه مظلمةً، والظلم حرامٌ قطعًا، فقد حرَّمه الله تعالى على نفسه وعلى عباده في آياتٍ كثيرةٍ وأحاديثَ متعدِّدةٍ، منها قوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربِّه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا»(١٠). ٣ ـ ومنه تبرز علَّة التحريم المتمثِّلة في إجبار البائع وإكراهه في البيع بغير رضاه، وهو منافٍ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]. ٤ ـ ظاهر الحديث أنَّ التسعير حرامٌ في كلِّ الأحوال بدون فرقٍ بين المجلوب والحاضر، ولا فرْقَ ـ أيضًا ـ بين حالة الرخص وحالة الغلاء، وهو مذهب الجمهور، ويرى آخَرون جواز التسعير في وقت الغلاء دون الرخص، وهو قولٌ مردودٌ لمعارضته للنصِّ الظاهر في امتناعه صلَّى الله عليه وسلَّم عن التسعير في حالة الغلاء. ٥ ـ ظاهر الحديث لم يفرِّق ـ أيضًا ـ في المنع بين ما كان قوتًا للآدمي والبهيمة وبين ما كان من غير ذلك: كالإدامات وسائر الأمتعة، وعليه الجمهور، وجوَّز جماعةٌ من متأخِّري أئمَّة الزيدية(١١) التسعيرَ فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة، ولا يخفى أنَّ هذا التخصيص يفتقر إلى دليلٍ، ثمَّ إنَّ المناسب الملغى المتصيَّد من الحكم لا يقوى على تخصيص الأدلَّة الصريحة، وعلى فرض فقدان الدليل يتعذَّر العمل بالمناسب الملغى، بل لا يسوغ ذلك كما تقرَّر في الأصول، فكيف مع وجود صرائح الأدلَّة. ٦ ـ فيه أنَّ التسعير حَجْرٌ على حرِّيَّة الأفراد وتضييقٌ على تصرُّفاتهم. ٧ ـ فيه دليلٌ على أنَّ السعر لم يكن موجودًا في مجتمعه صلَّى الله عليه وسلَّم، لذلك سألوه في أن يسعِّر لهم ولم يجبهم إليه. ٨ ـ مفهوم الحديث جواز أن يبيع أقلَّ ممَّا يبيع الناس، ورُوي عن مالكٍ -رحمه الله- أنه قال: «يُلزمه الحاكم أن يبيع على وفق ما يبيعه الناس»(١٢)، استدلالًا بواقعة عمر مع ابن أبي بلتعة رضي الله عنهما الآتية. ٩ ـ في الحديث تحذيرٌ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمَّته من الوقوع في مظالم الناس عامَّةً، سواءً في الدماء أو الأموال، ولذلك أراد لقاء الله بريئًا من تبعيَّتها. سابعًا: مواقف العلماء من الحديث: تباينت آراء العلماء في هذه المسألة على أقوالٍ عديدةٍ ترجع في مجملها إلى الأقوال التالية: أ ـ مذاهب العلماء: أ ـ ذهب جمهور العلماء (بعض الأحناف ومالكٌ ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في المذهب الشافعي وهو المشهور في المذهب الحنبلي) إلى القول بتحريم التسعير مطلقًا(١٣). ب ـ روايةٌ عن مالكٍ بجواز التسعير مطلقًا، أي يُلزمه الحاكم ببيع ما يوافق بيع الناس قلَّةً وكثرةً(١٤). ﺟ ـ ذهب ابن تيمية وابن القيِّم إلى التفصيل(١٥)، حيث يرى هؤلاء أنَّ التسعير يحرم في حالة الظلم، ويجوز بل يجب في حالة العدل، ويقرب من هذا الرأي ما ذهب إليه بعض الأحناف من أنه يجوز التسعير إذا تعدَّى أرباب الطعام تعديًّا فاحشًا(١٦). وسنتناول أدلَّة الأقوال السابقة فيما يلي: ب ـ أدلَّة المذاهب: ١ ـ استدلَّ القائلون بالمنع من التسعير مطلقًا بما يلي: ـ بحديث أنس رضي الله عنه المتقدِّم: ووجه دلالته أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يحدِّد سعر السلع مع أنهم سألوه ذلك، إذ لو كان جائزًا لأجابهم، ثمَّ إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم علَّل امتناعه بما فيه من مظنَّة الظلم، والظلم حرامٌ إجماعًا. ـ ولأنَّ الناس أحرارٌ في تصرُّفاتهم المالية، والتسعيرُ حجْرٌ عليهم منافٍ لهذه الحرِّيَّة المقرَّرة. ـ ولأنَّ مصلحة المشتري ليست أَوْلى من مصلحة البائع، قال الشوكاني: «إنَّ الناس مسلَّطون على أموالهم، والتسعير حجْرٌ عليهم، والإمام مأمورٌ برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أَوْلى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران، وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزامُ صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى منافٍ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾.»(١٧). ـ إنَّ فرض التسعير مآله ارتفاع الأسعار نتيجة اختفاء السلع، وبالتالي يتضرَّر الفقراء بعدم القدرة على شرائها، كما يتضرَّر الأغنياء بشرائها بغبنٍ فاحشٍ، فكلٌّ من الفقراء والأغنياء يقعان في ضيقٍ وحرجٍ ولا تتحقَّق لهما مصلحةٌ. ٢ ـ واستدلَّ القائلون بالجواز مطلقًا بما يلي: ـ بما رواه الشافعي وسعيد بن منصور وغيره عن القاسم بن محمَّدٍ أنَّ عمر رضي الله عنه مرَّ بحاطب بن أبي بلتعة في سوق المصلَّى، وبين يديه غَرَارتان فيهما زبيبٌ، فسأله عن سعرهما، فسعَّر له مُدَّيْن بكلِّ درهمٍ، فقال عمر: قد حُدِّثْتُ بِعِيرٍ مُقْبِلةٍ من الطائف تحمل زبيبًا، وهم يعتبرون سعرك، فإمَّا أن ترفع وإمَّا أن تُدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت(١٨). وجه دلالة هذا الأثر: أنه يفيد أنَّ لمن وَلِيَ أمْرَ المسلمين أن يفرض على السلع التي يراد بيعُها سعرًا معيَّنًا، بحيث لا يظلم المالك ولا يرهق المشتري. ـ ولأنَّ في منع التسعير إضرارًا بالناس من ناحية أنه إذا زاد البائع تبعه أصحاب المتاع، وإذا نقص أضرَّ بأصحاب المتاع. ـ ولأنه يُمنع التسعير إذا كان ارتفاع السعر غير آتٍ من قِبَلهم، وإنما بسبب قانون العرض والطلب، لذلك امتنع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن التسعير لما فيه من ظلم التجَّار وهم يبيعون بسعر المثل(١٩). ـ ولأنَّ الإمام مطالَبٌ برعاية مصلحة البائع والمبتاع، فلا يمنع البائع ربحًا، ولا يجوِّز له منه ما يضرُّ به الناس، عملًا بقاعدة: «يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ العَامِّ». ٣ ـ استدلَّ القائلون بالتفصيل بما يلي: ـ بما أخرجه البخاري ومسلمٌ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ لَا وَكْسَ(٢٠) وَلَا شَطَطَ(٢١)، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعُتِقَ عَلَيْهِ العَبْدَ، وَإِلَّا فَقَدْ عُتِقَ مِنْهُ مَا عُتِقَ»(٢٢). وجه دلالة الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم منع الزيادة في ثمن المثل في عتق الحصَّة من العبد المشترك، فلم يكن للمالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لـمَّا أوجب عليه أن يملِّك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرِّيَّة في العبد، قدَّر عِوَضَه بأن يُقَوَّم كلُّ العبد قيمةَ عدلٍ، ويعطيَه قسطه من القيمة، فإنَّ حقَّ الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف(٢٣). وبناءً على ذلك فإنه: ما دام الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ولا يحقُّ للمالك أن يطالب بالزيادة على القيمة، فالأَوْلى عندئذٍ إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملُّك أعظم وهم إليها أضرُّ، مثل المضطرِّ إلى الطعام والشراب واللباس ونحوه. ـ وأنَّ حديث السراية في العتق المتقدِّمَ صار أصلًا لمسائلَ عديدةٍ منها: ـ أنَّ ما لا يمكن قسمة عينه، فإنه يباع ويُقسم ثمنه، إذا طلب الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع. ـ أنَّ من وجبت عليه المعاوضة أُجبر أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن المثل. ـ في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة. وحاصله أنَّ ما أمر به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير ومعناه المقتضي للعدل. ـ بالقياس على الاحتكار، لما رواه معمر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»(٢٤). وجه دلالة هذا الحديث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم حرَّم الاحتكار(٢٥)، لأنه مُخِلٌّ بالتعامل المالي الأخوي، وعلَّة تحريمه هي دفع الضرر والظلم عن عامَّة الناس، فكلُّ ما أضرَّ بالناس أو تسبَّب في ظلمهم بواسطة هذه المعاملة فهو احتكارٌ ممنوعٌ شرعًا. وعليه يقاس التسعير بجامع علَّة دفع الضرر والظلم على العباد نتيجةَ ارتفاع الأسعار دون موجِبٍ. ـ ثمَّ إنَّ السنَّة المطهَّرة قد مضت في مواضعَ متعدِّدةٍ بأنَّ على المالك أن يبيع ماله بثمنٍ مقدَّرٍ إمَّا بثمن المثل، وإمَّا بالثمن الذي اشتراه به، كالعتق والشفعة وماء الطهارة وآلة الحجِّ والجهاد على من وجب عليه شراء شيءٍ منها، فعليه أن يشتريَه بقيمة المثل، وليس له أن يمتنع عن الشراء إلَّا بما يختار، فإذًا لم يحرِّم الشارع ـ بصفةٍ مطلقةٍ ـ تقديرَ الثمن. ج ـ مناقشة الأدلَّة السابقة: يمكن مناقشة أدلَّة الأقوال السابقة كما يلي: ١ ـ استدلال المانعين من التسعير مطلقًا بحديث أنسٍ رضي الله عنه السابق على عموم المنع، غير مسلَّمٍ لأنه ليس لفظًا عامًّا حتى يعمَّ، بل هو واقعةٌ خاصَّةٌ أو قضيةٌ معيَّنةٌ حدثت في المدينة وهي غلاء السعر، وليس فيها ـ أيضًا ـ أنَّ أحدًا امتنع من بيع ما الناسُ يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنسٍ رضي الله عنه التصريح بداعي طلب التسعير وهو ارتفاع الأسعار بسبب قلَّة الجلب الذي يفضي إلى زيادة الطلب، وليس فيه أنَّ أحدًا طلب في ذلك أكثر من عوض المثل، ولهذا امتنع النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن التسعير لا لكونه تسعيرًا، ولكن خشية الوقوع في ظلم التجَّار الذين لم يكن لهم يدٌ في ارتفاع السعر، وإنما ارتفع بسبب قانون العرض والطلب، مع أنه ثبت في الصحيحين منعُ الزيادة عن ثمن المثل في عتق الحصَّة من العبد المشترك. ٢ ـ أمَّا استدلال المجيزين مطلقًا بما روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فالجواب عنه من الوجوه التالية: ـ أنَّ اجتهاد عمر رضي الله عنه ليس حجَّةً في ذاته. ـ وأنَّ اجتهاده رضي الله عنه غير معتبرٍ لمقابلته للنصِّ، وهو امتناعه صلَّى الله عليه وسلَّم عن التسعير. ـ ولأنَّ عمر رضي الله عنه عاد عن قوله كما جاء في «الأمِّ»: «... فلمَّا رجع عمر حاسب نفسه، ثمَّ أتى حاطبًا في داره فقال له: «إنَّ الذي قلتُ لك ليس بعزيمةٍ منِّي ولا قضاءٍ، إنما هو شيءٌ أردتُ به الخيرَ لأهل البلد، فحيث شئت فبِعْ، وكيف شئت فبِعْ»»(٢٦). ـ ثمَّ إنَّ السند ضعيفٌ عن عمر بسبب انقطاعه، إذ إنَّ القاسم لم يدرك عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه. ٣ ـ أمَّا الاستدلال من جهة المعنى بأنَّ التسعير إضرارٌ بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضرَّ بأصحاب المتاع، فجوابه أنَّ الضرر موجودٌ فيما إذا باع في بيته. ٤ ـ أمَّا الأدلَّة العقلية المُورَدة في هذه المسألة بناءً على اجتهادات العلماء، فهي إمَّا متعارضةٌ فيما بينها، وإمَّا مقابِلةٌ للنصِّ، ولا يخفى أنه «لَا اجْتِهَادَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ»، كما هو مقرَّرٌ في الأصول. د ـ سبب اختلاف العلماء: والذي يظهر لي أنَّ سبب اختلاف العلماء في مسألة التسعير يرجع إلى ما يلي: هل حديث أنسٍ رضي الله عنه لفظٌ عامٌّ أم قضيةٌ معيَّنةٌ ؟ هل التسعير إكراهٌ بغير حقٍّ أم بحقٍّ ؟ هل يجوز تخصيص العموم بالمصلحة ؟(٢٧) ـ فمن رأى أنَّ حديث أنسٍ رضي الله عنه لفظٌ عامٌّ يمنع التسعيرَ في هذه الحال، وأنَّ إجبار البائع على البيع بغير رضاه إكراهٌ له بغير حقٍّ، لمنافاته لنصِّ الآية المتضمِّن للركن الأساسي في العقود وهو الرضا، وأنه لا يجوز تخصيص العموم بالمصلحة، قال: بمنع التسعير مطلقًا. ـ ومن رأى أنَّ إلزام البائع بالبيع بما يبيع به الناسُ إكراهٌ بحقٍّ ورأى أنه يجوز تخصيص عموم النصِّ بالمصلحة المعتبرة الوجودِ، كما رأى وجوب تقديم المصلحة العامَّة على الخاصَّة، قال: بجواز التسعير مطلقًا متى دَعَتِ الحاجة إليه قلَّةٍ وكثرةٍ. ـ ومن رأى أنَّ حديث أنس رضي الله عنه واقعة حالٍ وليس لفظًا عامًّا، وأنَّ التسعير فيه ما هو إكراهٌ بحقٍّ وبغير حقٍّ، ورأى أنه إذا سُلِّم العموم فلا يجوز تخصيص العموم بالمصلحة، وإنما يجوز تفسير النصِّ على ضوء المصلحة المتبادرة من النصِّ نفسه، فَصَّلَ وقال: إنَّ السعر منه غير الجائز، وهو المتضمِّن ظُلْمَ الناس وإكراهَهم بغير حقٍّ على البيع بثمنٍ لا يرضَوْنه، أو منْعَهم ممَّا أباحه الله لهم فهو حرامٌ، ذلك لأنَّ ارتفاع الأسعار ليس آتيًا من قِبَلهم، وإنما وقع بسبب قلَّة العرض وزيادة الطلب، عملًا بالآية وحديث أنس رضي الله عنه المتقدِّم، أمَّا السعر المتضمِّن للعدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعِهم ممَّا يحرم عليهم من أخذ زيادةٍ على عوض المثل فهو جائزٌ بل واجبٌ، رفعًا للظلم الذي تسبَّب فيه جشع التجَّار باستعمالهم للحيل والاحتكار، مستغلِّين ما حاجة الناس إليه داعيةٌ فإجبارهم على العدل لازمٌ، أخذًا بما مضت به السنَّة المطهَّرة من وجوب تقويم قيمة المثل كحديث السراية في العتق والشفعة وغيرها، وقياسًا على النهي عن الاحتكار من جهةٍ أخرى. هـ ـ الترجيح: وفي تقديري أنَّ المذهب الأخير أعدلُ المذاهب لاجتماع كلِّ الأدلَّة فيه، ولأنَّ ما قدَّره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرِّيَّة وهو حقُّ الله، وما احتاج إليه الناس حاجةٌ عامَّةٌ فالحقُّ فيه لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الحاجيات مصلحةٌ عامَّةٌ، ليس فيها الحقُّ لواحدٍ بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أَوْلى من تقديره لتكميل الحرِّيَّة، وعلى هذا يمكن القول بأنَّ التسعير جائزٌ فيما إذا كانت حاجة الناس إليه عامَّةً، وإلَّا فإنه يفضي إلى غلاء الأسعار نتيجة اختفاء السلع أو كثرة الطلب، وبهذين القيدين يُعَدُّ التسعير ضربًا من ضروب الرعاية العامَّة وصيانة حقوق المسلمين، والله أعلم. قال ابن العربي: «والحقُّ التسعير وضبط الأمر على قانونٍ لا تكون فيه مظلمةٌ على أحدٍ من الطائفتين، وذلك قانونٌ لا يُعرف إلَّا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال وحال الرجال ... وما قاله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ وما فعله حكمٌ، لكن على قومٍ صحَّ ثباتهم واستسلموا إلى ربِّهم وأمَّا قومٌ قصدوا أكْلَ الناس والتضييق عليهم فبابُ الله أوسع وحكمه أمضى»(٢٨).
(١) «سنن أبي داود» (٣/ ٧٣١)، «سنن الترمذي» (١٣١٤)، «مسند أحمد» (٣/ ١٥٦ و٢٨٦)، «سنن ابن ماجه» (٢/ ٧٤١)، «سنن الدارمي» (٢/ ٢٤٩)، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (٢/ ١٣٥) وفي «غاية المرام» (١٩٤). (٢) «بلوغ المرام» بشرح «سبل السلام» (٢/ ٢٥). (٣) «سنن الترمذي» (١٣١٤). (٤) «صحيح البخاري» (١١/ ١٤٤) في «الدعوات»، «صحيح مسلم» (١٦/ ٣٩) في «فضائل الصحابة»، «سنن الترمذي» (١٣/ ٢٢٣) في «المناقب». (٥) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٣/ ٩٨)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٧/ ١٧)، «المعارف» لابن قتيبة (٣٠٨)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٢/ ٢٨٦)، «مستدرك الحاكم» (٣/ ٥٧٣)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (١/ ١٠٩)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٩/ ٨٨)، «أسد الغابة» (١/ ١٢٧) و«الكامل» (٤/ ٥٤٨) كلاهما لابن الأثير، «الكاشف» للذهبي (١/ ١٤٠)، «سير أعلام النبلاء» (٣/ ٣٩٥) و«دول الإسلام» (١/ ٦٤) كلاهما للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٨٨)، «الإصابة» (١/ ٧١) و«تهذيب التهذيب» (١/ ٣٧٦) كلاهما لابن حجر، «شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي (١/ ١٠٠)، «الرياض المستطابة» للعامري (٣٣)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٥٣). (٦) «الباعث الحثيث» لابن كثير (١٨٥). (٧) «لسان العرب» لابن منظور (٦/ ٣٠). (٨) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٨٠)، «الفتح الربَّاني» (١٥/ ٦٤). (٩) «المستدرك» للحاكم (١/ ٥٠٩)، «مجمع الزوائد» للهيثمي (١٠/ ١٣٦). (١٠) «صحيح مسلم» (١٦/ ١٣٢) في «البرِّ والصلة والآداب». (١١) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٨٠). (١٢) «المنتقى» للباجي (٥/ ١٣)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ٢٣٩). (١٣) «المهذَّب» (١/ ٢٩٩)، «المنتقى» (٥/ ١٣)، «شرح المنهاج» (٣/ ٤٧٣)، «المغني» (٤/ ٢٣٩)، «الأمُّ» (مختصر المزني) (١٢)، «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٢٥). (١٤) وهو ما روى أشهب عن مالكٍ، ووجهه النظر إلى مصالح العامَّة والمنعُ من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يُجْبَر الناس على البيع، وإنما يُمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدِّده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، ولا يمنع البائعَ ربحًا ولا يسوِّغ له منه ما يضرُّ بالناس. «المنتقى شرح الموطأ» للباجي (٥/ ١٨). (١٥) «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٧٧) و«الحسبة» (١٣) كلاهما لابن تيمية، «الطرق الحكمية» لابن القيِّم (٢٤٤). (١٦) «شرح كنز الدقائق» (١/ ٢٨). (١٧) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٨٠). (١٨) «الأمُّ» للشافعي (مختصر المزني) (٩٢)، «المغني» لابن قدامة (٤/ ٢٣٩). (١٩) «المنتقى» للباجي (٥/ ١٨). (٢٠) الوكس: النقص. [«مختار الصحاح» (٧٣٤)، «النهاية» لابن الأثير (٥/ ٢١٩)]. (٢١) الشطط: مجاوزة القدر في كلِّ شيءٍ، وفي الحديث: «لَـهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ»، أي: لا نقصان ولا زيادة، «مختار الصحاح» (٣٣٨). (٢٢) «صحيح البخاري» (٥/ ١٥١) في «العتق»، «صحيح مسلم» (١٠/ ١٣٥). (٢٣) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٩٦). (٢٤) «صحيح مسلم» (١١/ ٤٣). (٢٥) الاحتكار هو اشتراء السلعة وحبسُها حتى تقلَّ فتغلو. (٢٦) «الأمُّ» للشافعي (مختصر المزني) (٩٢). (٢٧) «الوسيط» للزحيلي (٣٦٥). (٢٨) «شرح ابن العربي لصحيح الترمذي» (٦/ ٥٤). كتبه الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله